الحمد لله ربّ العالمين وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين من ءادم فمن دونه، وبعد فقد قال الله تبارك وتعالى: {إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان ءاية 3-4].
المعنى أن الله أنزل القرءان في ليلة مباركة أي في ليلة القدر، هو القرءان كان في اللوح المحفوظ، كان في الذكر، أي اللوح المحفوظ ثم بعد أن تمّ لسيدنا محمد من العمر أربعون سنة أنزل الله تبارك وتعالى أي أمَرَ جبريل بأن يُنزل القرءان جملةً واحدة إلى السماء الدنيا إلى بيت العزة، كانت تلك الليلةُ ليلةً من رمضان في ذلك العام الذي بدأ على الرسول نزول القرءان، جبريل لم ينزّله على الرسول دَفعة واحدة، إنما بحسب ما يؤمر جبريل من قبل الله تعالى، كان جبريل ينزل منه ءايات أحياناً وأحياناً سوراً كاملة، كان ينزل جبريل على رسول الله من القرءان أحياناً خمس ءايات، وأول ما أنزل على الرسول من القرءان سورة العلق، خمس ءايات منها لم تنزل عليه بتمامها بل أنزل عليه منها أولاً خمسُ ءايات ثم بعد عشرين سنة تمَّ نزول القرءان عليه فلما تمّ نزول القرءان عليه علم أصحابه ترتيب القراءة قبل ذلك كان جبريل ينزل عليه بشىء من القرءان ليس على حسب الترتيب الذي هو الآن في المصحف، بل على غير ذلك الترتيب، كان ينزل جبريل بشىء من القرءان، إنما بعد اكتمال نزوله أي بعد عشرين سنة من بدء نزول القرءان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمَّ نزول القرءان عليه فعلّمهم رسول الله قراءةَ القرءان على الترتيب الذي هو الان في المصحف، ليس أصحاب الرسول باجتهادهم قدموا وأخّروا ووضعوا هذه السورة هنا وتلك السورة هناك وتلك السورة في موضع وتلك السورة في موضع ءاخر إنما على حسب تعليم الرسول رتبوا القرءان كتابة، لأن النبيّ كان أمياً لا يقرأ المكتوب ما تعلم الخط، عاش ولم يتعلم الخطّ، ومع ذلك كان أعطاهُ الله علم الأولين والآخرين، أما بعض الأنبياء الذين قبله كانوا تعلموا الخط حتى عيسى ابن مريم كان دخل المدرسة الإبتدائية التي يقال لها الكُتّاب تعلم هناك الخط الذي كان مستعملاً في الأرض التي كان هو بها في فلسطين كان هو في أناس يتكلمون باللغة السُّريانية، والإنجيل الذي أنزل عليه كان باللغة السُّريانية لم يكن بالعربية ولا بالعبرية، الله تبارك وتعالى أخبرنا في القرءان الكريم بأنه أنزل القرءان في ليلة مباركة تلك الليلة هي ليلة القدر كانت من رمضان، ليلة القدر لا تكون إلا في رمضان، لا تكون في شعبان ولا شهر ذي الحجة ولا في شهر ذي القعدة أو رجب أو غير ذلك إلاّ في رمضان، ثم هي كانت أيام الأنبياء الماضين ليلة القدر ليست من خصوصيّات أمّة محمّد، هنا في هذه الآية الله تعالى قال: {إنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [سورة الدخان ءاية 3] وقال في موضع ءاخر في القرءان: {إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [سورة القدر ءاية 1] الليلة المباركة التي ذكرت في الآية التي تلوناها أولاً هي ليلة القدر ليست غيرها، ثم الله تبارك وتعالى أخبرنا بقوله: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيم} [سورة الدخان ءاية 4] لأن الأمور التي تحدث في العام إلى العام القابل تفرق في هذه الليلة أي ليلة القدر، ليس ليلة النصف من شعبان كما يظن كثير من الناس، لا تصدقوا، هذا الذي صحَّ أن ليلة القدر التي هي من رمضان هي الليلة التي يُفرَقُ فيها كل أمر حكيم أي كل أمر مُبرَمٍ أي مما يحدث في تلك السنة من موتٍ وصحة ومرض وفقر وغنى وغيرِ ذلك مما يطرأ على البشر من الأحوال المختلفة إلى العام القابل، هذا شىء ثابت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله هو روى ذلك أما أن القرءان أنزل في ليلة القدر هذا القرءان أخبر به، بنص القرءان ثبت أن القرءان أنزِلَ ليلة القدر، أما أن تلك الليلة أي ليلة القدر هي الليلة التي يفرق فيها كلُّ أمر حكيم ابتداء من تلك الليلة إلى الليلة التي في العام القابل، هذا مأخوذ من كلام سيدنا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعبد الله بن عباس كان يقال له ترجمان القرءان من إتقانه لتفسير القرءان، برز بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقّبه بعضهم ترجمان القرءان وكان الرسول ذات يوم التزمه، ضمّه إليه ودعا له، دعا له بفهم القرءان، لذلك بلَغ هذه المرتبة أي مرتبة أن يلقّب تَرجُمَان القرءان كان إذا تكلم يقال عنه أفصح النّاس، من حَضَره وسمع كلامه يقول عنه أفصح الناس ومن نظر إليه يقول عنه أجمل الناس، هو رضي الله عنه وعن أبيه قال في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حكِيمٍ} [سورة الدخان ءاية 4] أي أنه يكون تقسيم القضايا التي تحدث للعالم من تلك الليلة إلى مثلها في العام القابل، وليس كما يقول بعض الناس من أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي توزع فيها الأرزاق لهذه السنة إلى أن تأتي الليلة التي هي في شعبان القابل وهي الليلة التي يبيَّن فيها ويُفصَلُ فيها من يموت في هذه المدة ومن يولد في هذه المدة إلى غير ذلك من التفاصيل من حوادث البشر، نقول ترجمان القرءان عبد الله بن عبّاس قال إن تلك الليلة هي ليلة القدر، وليلة القدر لا تكون إلا من رمضان، ليست ليلة النصف من شعبان، مع ذلك ليلة النصف من شعبان لها فضيلة، إذا انسان أحيا تلك الليلة بالعبادة فيه فائدة، كذلك ليلة عيد الفِطر كذلك ليلة عيد الأضحى من أحياها بالعبادة كان له فضل، لكن لا نقول إنها هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم. هم الملائكة الله تعالى صرّفهم في كثير من أمور العباد، في كثير من أمور أهل الأرض، يتصرّفون في المطر، إنزال المطر ليس هكذا من دون مقدار بل الملائكة يتصرفون، على حسب تصرّفهم تنزل قَطَرات المطر كذلك النبات للملائكة فيه تصرّف، النبات الذي تنبته الأرض أي ما يأكله الناس والدّواب بتصرف الملائكة، الله تعالى هو خالق كل شىء لا خالقَ سواه وهو صرَّفَ الملائكة في كثير من الأمور، في المطر الذي ينزل لإحياء الأرض الله تعالى صرفهم فهم يتصرفون في ذلك، حتى هذا الرعد رسول الله فسره قال: “الرَّعدُ ملك يسوق السحاب بيده مِخراق يضرب به السحاب"، المِخراق هو ليس كمِخراق الدنيا الذي يستعمله البشر بل هو شىء ءاخر له شَبَه الرسول قال بيده مخراق، المخراق هو هذا الرداء يُلَفّ ويُضرب به مثل السوط، يُلف فيصير مثل السّوط.
بيده أي بيد هذا الملك المسمى الرعد مخراق يضرب به السحاب فينقل السحاب من أرض إلى أرض، هو يضرب بهذا المخراق السحاب من أرض إلى أرض.
لكن الله تبارك وتعالى أعطى الملائكة قوة لم يعطها لغيرهم، ما أعطى هذه القوة لا للبشر ولا للجن.
ما أعطى أحداً من خلقه من القوة ما أعطى الملائكة.
هناك من ملائكة الله خزان الريح، هذه الريح أيضا تحت تصرف الملائكة، الريح التي تهب في الأرض في هذا الفضاء بتصرف الملائكة، أحياناً تكون قويّة وأحياناً تكون خفيفةً كل ذلك بتصرفهم، على حسب الأوامر يتصرفون ليس تصرفاً أعوج عن هوى، كل بأمر الله يتصرفون تصرفهم في الريح تصرفهم في المطر تصرفهم في النبات، في نبات الأرض، كل ذلك بأمر الله، يتلقون الأمر من الله تعالى.
كما أنه جعل هؤلاء الذين يسألون الميت في قبره تلك الأسئلة الثلاثة هم أيضاً يتصرفون بأمر الله تبارك وتعالى لكن هذه لم تكن أيام الأنبياء الأولين، سؤال القبر في أيام الأنبياء السابقين قبل سيدنا محمد ما كان، هذا في أمة محمد الله تبارك وتعالى جعل هذا السؤال، حتى المؤمن لما يسأل عنه مع السؤال الأول من ربّك والثاني من نبيك، يقولون له من نبيك وفي لفظ ورد أنهما يقولان ما تقول في هذا الرجل، لمحمد، الذي بعث فيكم، ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم أي محمد، فالمؤمن يفرح بهذا الجواب الذي يجيبه لأنه كان معتقداً جازماً لم يكن شاكاً ولا منكراً، يجيب الملكين بقوله: "محمدٌ نبيي" وبلفظ: "إنه عبدُ الله ورسولُه جاءنا بالبَيّنات والهدى فآمنا به وصدقناه"، وهذا الذي يرويه بعض الناس مما يقرأُ في عدد كثير من البلدان سوريا ولبنان والأردن وفلسطين في ليلة النّصفِ من شعبان من قول اللهم يا ذا المن ولا يُمَنُّ عليك إلى ءاخره، لا يثبت عن صحابي من أصحاب رسول الله لا عن عمر وإن كان روي أن عمر كان يقرأ بعضاً منه، بعض هذا اللفظ، روي لكن غير ثابت، وكذلك يروى عن مجاهد أنه قال بعض هذا اللفظ، هذا مجاهد من التابعين أخذ العلم عن عبد الله بن عباس، لم ير الرسول، وكذلك يروى عن عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله كذلك يروى عن رجل ءاخر من التابعين يقال له شَقيق بن عبد الله عن كل من هؤلاء الأربعة ليس ثابتاً ثم إن الذي روي عن هؤلاء الأربعة عمر بن الخطاب ومجاهد وعبد الله بن مسعود وشقيق بن عبد الله بعض هذا اللفظ ليس كله، المروي عنهم بعض هذا اللفظ ليس جميعه، فلا تصدقن به لأنه خلاف الواقع لأن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وليلة القدر لا تكون إلا في رمضان، ثم كثيرٌ من الناس الجاهلين الذين لا عناية لهم بالدين يهتمون بتلك الليلة، ليلة النصف من شعبان، على زعمهم حتى الذي هو متعود السكر وغير ذلك من الأعمال الخسيسة الرذيلة تلك الليلة يدفع عمله الخسيس كأنه يظن أنه إن قطع هذا العمل تلك الليلة وحضر مجلساً يدعى فيه بهذا الدعاء أنه يسلم، هذا العام إلى مثل تلك الليلة من كثير من البلاء ومن الفقر والفاقة والمرض ونحو ذلك، معتقداً هذا الاعتقاد يهتم لحضور مجلس يدعى فيه بهذا الدعاء "اللهم يا ذا المَنّ ولا يُمَنُّ عليك" كأنه فرض ولا سيما في حلب شيخ الجامع هو يعمل لهم في ذلك اليوم للصغار والكبار، ويشارك الإمام في القراءة من يعرف القراءة على الترتيب الذي هو يرتبُه كل هذا الاعتقاد ليس في محله، أولاً الليلة ليست هي الليلة التي قال الله عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان ءاية 4] ليس فيها، إنما ليلة القدر التي هي ليلة من رمضان، ورمضان تصادف فيه هذه الليلة إما أوله وإما وسطه وإما ءاخره لكنّهُ في الغالب تصادف ءاخره، أواخره ليلة سبع وعشرين، أكثر ما تكون تصادف هذه الليلة من رمضان ليلةَ سبع وعشرين أو تسعٍ وعشرين أو ثلاثٍ أو إحدى وعشرين وقد تحدث في الشَّفع أي غيرِ الوتر، ليلةَ أنزل القرءان دَفعة واحدةٌ واحدة من الذكر أي اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا إلى بيت العزة، كانت تلك الليلة ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان على أنه في ذلك الوقت لم يفرض رمضان ولا الصلوات الخمس لأن ذلك كان أول ما بُدء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بواسطة جبريل عليه السلام، عليه وعلى نبينا أفضل السلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إنّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [سورة الدخان ءاية 3] هي ليلة القدر.
هذه الآية وءاية سورة القدر المعنى واحد، لكن ءاية سورة القدر أوضح لأن ليلة نزول القرءان هي ليلة القدر حيث إن الله تعالى قال في سورة القدر: {إنّا أنْزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدْرِ} [سورة القدر ءاية 1] هناك عبّر عنها بليلة مباركة والمراد واحد، فلا يجوز أن يقال إن ليلة القدر لا تكون إلا ليلة سبع وعشرين أو خمس وعشرين أو سبعة عشر، بل الأمر الصحيح أن يقال إنها يجوز أن تصادف أية ليلة من رمضان يجوز أن تصادف أول ليلة من رمضان ويجوز أن تصادف الليلة الثانية ويجوز أن تصادف الليلة الثالثة إلى ءاخر الشهر حتى ليلة الثلاثين، إن كان رمضان ثلاثين في ذلك العام يجوز أن تصادف ليلة القدر ليلة الثلاثين، لكن أرجَى ان تكون ليلة القدر من ليلة تسع وعشرين ومن سائر ليالي رمضان هي ليلةُ سبعٍ وعشرين، لذلك شُهر عند الناس إذا قيل ليلة القدر أنها ليلةُ سبع وعشرين، هكذا يَسبِقُ إلى أذهان الناس، ثم الناس يسمون تلك الليلة ليلة القدر، لكن لا ينبغي الجزم بأنّها في كل السنين هي ليلة سبع وعشرين من رمضان، لا يجوز أن نخصص هذه الليلة بأنها ليلة القدر من رمضان، إنما نقول الغالب الأكثر أنها تصادف ليلةَ سبعٍ وعشرين، هو المؤمن ينبغي أن يجتهد في طاعة الله تعالى في كل رمضان لأن الثوابَ فيه أعظم من سائر الشهور، ثواب قيام الليل في رمضان أعظم من ثواب قيام الليل في غير رمضان، ثم كل ساعات المؤمن ينبغي أن يَحرِصَ فيها على أن يتزوّد منها.
الله تعالى علم كل ما وقع وكلّ ما سيحدث أما الخَلق لم يطلعهم الله تبارك وتعالى إلا على القليل من الخَفيات.
نبي الله سليمان عليه السلام الذي أعطاه الله من المُلك ما لا ينبغي لأحدٍ من بعده، الذي أعطاه الله من الملك ما لا ينبغي لأحد غيرِه، كان إذا صلى الصبح تنبت في مصلاَّه أي في المكان الذي كان يصلي فيه شجرة فتحدّثه، هي الشجرة بقدرة الله تنطِق فتحدثه أنا لكذا أنا لكذا، تقول الشجرة خلقت لكذا ثمّ قبل وفاته نبتت شجرة تسمى الخُرنُوب فقال أنتِ لماذا خُلِقت قالت أنا لخراب هذا البيت، أو لخراب هذا المسجد، فعلم أن أجله قرُب فقال: يا ربّ أعمِ موتي على الجن، أخف موتي على الجن، معناه أمتني من حيث لا تعلم الجنّ إني قد مت، أمتني وأخف موتي على الجن أي اجعل موتي لا تعلم به الجن، كان يصلي كان قائماً ومتكئاً، وهو في الصلاة كان متكئاً على عصاه فقبض الله روحه، ظل عاماً كاملاً، حولاً كاملاً وهو قد مات، الجن لم يعلموا بموته، ظلوا يشتغلون الأشغال التي هو كلَّفهم إيّاها، الأعمال الشاقة، هم الجنّ الكفار ليسوا الجن المؤمنين الله تعالى قهرهم لسليمان، كانوا مقهورين إذا خالفوا أمرَ سليمان الله تعالى ينزّل عليهم عذاباً في الدنيا في الحال، عذاباً يهلكهم، ينزل عليهم هلاكهم، لذلك كانوا يطيعونه، ظلوا سنة كاملة يشتغلون بالأعمال التي هو كلفهم إياها ولم يشعروا بموته، ثم تسلقت الأرَضَة على عصاه فأكلتها فخرّ سليمان، فعلمت الجن بموته، وعلمت الجن إنهم لا يعلمون الغيب، أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المُهِين سنة كاملة، في الأعمال الشاقة التي كان سليمان مَسَّكَهم ايّاها، وعلِمَ البشر أيضاً أن الجن لا تعلم الغيب ما ظلت تعمل الأعمال الشاقة لسليمان سنة كاملة وهو قد مات ولم يشعروا بموته، وهكذا يجب اعتقاد أن الجن لا يعلمون الغيب كما أن الإنس لا يعلمون الغيب لكن الإنس فيهم أنبياء، فالله تعالى يطلع الأنبياء على كثير من الغيب يعطيهم علماً بحوادث قبل أن تحدث.
والجنُ فيهم أولياء فيهم أناس مؤمنون صلحاء أتقياء يحافظون على حقوق الله وحقوق العباد، كما يوجد في البشر أولياء، أولياؤهم يجوز أن يطلعهم الله تعالى بالنور الذي ألقاه في قلوبهم على أشياء من الخَفِيّات، لكن أكثرهم كفار، يقال لهم شياطين، من أسلم منهم يقال له مؤمن الجن ومن لم يسلم وبقي على متابعة جده الأكبر إبليس يقال له شيطان، ثم هم أنواع منهم نصارى ومنهم يهود، ومنهم مجوس ومنهم بوذيون إلى غير ذلك، كالإنس لهم أديان مختلفة، ثم كل طائفة من هؤلاء الشياطين من كان دينه اليهودية يؤيد اليهودية، يحب أن تقوى اليهودية ومن كان دينه النصرانية يحب أن تقوى النصرانية ومن كان دينه المجوسية يحب أن تقوى المجوسية ثم منهم من هو مسلم لكن فاسق يتبع هواه ويساعد بعض البشر على ما فيه هواه، على ما له فيه هوى، وقد يموه كثير منهم يقولون نحن مسلمون يتظاهرون بقراءة القرءان وذكر الله وهم كافرون، لكن همهم بتظاهرهم بالإسلام أن يغشوا بعض المسلمين من البشر يوهموهم أنهم على مرتبة عالية، درجة عالية، حتى يغرقوهم في الضلال من حيث لا يشعرون.
أما الملائكة فالله تبارك وتعالى جعل كلاً منهم مكرمين، ليس فيهم عاصٍ لله تبارك وتعالى، ليس لهم نَزَعَات تدعوهم إلى المعاصي، ليس فيهم شهوة الأكل ولا شهوة الشرب ولا شهوة النّوم ولا سلط الله عليهم التعب.
كل يوم ينزل فينا ملائكة يتعاقبون، العصر الذين يبيتون معنا ينزلون من السماء والذين باتوا فينا العصر يصعدون، ثم يكون اجتماع الفريقين الصبح، هؤلاء نزلوا وهؤلاء يصعدون، ولا يتعبون من قطع هذه المسافة البعيدة لا يلحقهم أدنى تعب، الله تعالى قال عن البشر: {وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء ءاية 28] ومع ذلك فضل الله البشر على الملائكة وعلى الجن لأن البشر فيهم أنبياء أما الجن فليس فيهم أنبياء.
لكن فيهم أولياء، من اتبع النبي اتباعاً كاملاً من الجن فهو ولي كما أن من اتبع النبي من البشر اتباعاً كاملاً يكون ولياً، غاية الرُّقِيّ للجن مرتبة الولاية ليس لهم أكثر من ذلك، الله تعالى ما بعث فيهم نبياً إنما جعل فيهم مؤمنين يتبعون الأنبياء من البشر، أيام موسى كان جنّ مؤمنين بموسى ثم بعد أن ارسل عيسى كذلك جن مؤمنون بعيسى متبعين له على شريعته وقبل ذلك كان جن مؤمنين بأنبياء زمانهم، أما البشر الله تبارك وتعالى فضّلهم لوجود الأنبياء فيهم، مع أن أكثر البشر كفار، مع ذلك فضلوا على الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
الله تعالى خلق عوالم كثيرة فالملائكة عالم والجن عالم والإنس عالم، هؤلاء عوالم ذَوُو العقول، أما البهائم ليسوا من ذوي العقول، هم من عوالم الله تعالى لكنهم ليسوا من ذوي العقول، مع ذلك يجوز أن يخلق الله تعالى في بعض المخلوقات التي هي من الجمادات النطق والإدراك، قد يخلق في بعض البهائم وفي بعض الجمادات الإدراك والنطق، النطق الصحيح الذي نحن نفهمه، أما النطق الذي نحن لا نعلمه إنما يعلمه من خصّه الله بمعرفته كسليمان، سليمان علّمه الله تعالى منطق الطير، كان يفهم من الطير منطقها، أما الشجرة ينطقها الله تعالى في معجزة لنبيّ، إذا أراد الله تعالى إظهار معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم ينطق الشجر والحجر، كان سيدنا علي رضي الله عنه مع النبي في بعض جبال مكة قال علي فما استقبَلَنا حجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله، كان عليّ يسمع بأذنه سلام الشجر والجبل، هذه حالاتٌ خاصة ينطق الله تعالى الجماد فيها، يَخلق في الجماد الإدراك لكن بدون روح، من دون روح الله تعالى قادر أن يخلق الإحساس والإدراك والمعرفة والنطق، من دون أن يجعل فيه روحاً، ليس الروح شرطاً عقلياً ولا شرعياً للإحساس والإدراك والنطق، إذا شاء الله تعالى أن يُنطق شجراً أو حجراً ينطق، وقد حصل، من ذلك أن العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم جاء الرسول ذات يوم إليه قال له أنت وأبناؤك لا تفارقوا المنزل حتى أعود إليكم ثم جاءهم قال لهم السلام عليكم كيف أصبحتم قالوا وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا رسول الله، ثم قال لهم تَدانَوا أي اقتربوا، ليقترب بعضكم من بعض فتدانَوا فوضع عليهم مُلاءَةً، وهي ثوب من قِطعة واحدة عريضة، مدَّهُ عليهم وقال: "اللهم استُرهم من النار كستري إيّاهم بملائتي هذه" فأمَّنت أسكُفَّهُ الباب والجُدران، قالت الأسكفة، الأسكفة هي العَتَبَة، ءامين ثلاثاً، ءامين ءامين ءامين، قال رسول الله: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتي أسترهم من النار كستري إياهم بمُلائتي هذه" الله تعالى بقدرته خلق صوتاً في الأسكفة والجدران، جدران البيت الذي كانوا فيه، هذا العباس رضي الله عنه كان أفضل أعمام الرسول بعد حمزة فيما نعتقد، كان له أولاد عشرة ذكور أولهم الفضل وءاخرهم تمّام لما رزقه الله العشرة قال:
تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرة يا ربِّ فاجعَلهُم كِرَاماً بَرَرَة
الله تعالى استجاب دعاءه فكانوا كلهم من خيار الناس يكفي أن منهم عبد الله بن عباس تُرجمان القرءان رضي الله عنه